ماهي نظرية الارتساء في التسويق
لا أجد أفضل من ضرب بعض الأمثلة من دراسات علم النفس على المستهلكين وكيف يمكن زيادة المبيعات بفضل بعض الكلمات والمؤثرات النفسية الخاص، واليوم سأحكي لكم عن مبدأ الارتساء Anchoring
وكيف يمكن استخدامه في التسويق والمبيعات، لكن بداية أريد منك أن تعطيني تقديرك (وليس أن تحسب) لناتج المعادلة التالية:
مرة أخرى أريد منك أن تعطيني مجرد تقدير، خلال فترة لا تزيد عن خمس ثواني، هيا الآن يجب أن تعطيني ردك لفهم هذه التجربة. إذا نفذت ما قلته فسيكون تقديرك ما بين 300 إلى 700 وفي أغلب الحالات سيكون تقييمك عند حدود 500.
الآن، دعنا نجرب لعبة أخرى، مرة ثانية أريد منك أن تعطيني تقييمك – وليس أن تحسب بالورقة والقلم أو الآلة الحاسبة أو الهاتف – ناتج المعادلة التالية وخلال 5 ثواني لا أكثر ولا أريد منك أن تقلق من صحة النتيجة:
إذا كنت قارئا مطيعا، وجربت معي حتى تعرف النتيجة، فسيكون تقييمك من 2000 إلى 3000. هل لاحظت أن المعادلة الأولى تساوي الثانية وما الاختلاف إلا في الترتيب؟ هل لاحظت اختلاف تقييمك رغم تساوي المعادلتين؟ هذا يا صديقي جانب من جوانب كثيرة جدا للكتابة التسويقية، لكن قبلها دعنا نعرف الجانب العلمي لهذا السلوك النفسي والذي يسمونه في علم النفس الارتساء
ما هو الارتساء – Anchoring
العقل البشري كسول، يحب الاختصارات. العمليات الحسابية ترهق المخ والذي يحاول تفادي الحساب بأن يبحث عن أي دليل ما يبني عليه توقعاته للإجابة. في المعادلة الأولى، نقلت العين إلى المخ صور الرقم واحد ثم اثنين ثم ثلاثة ثم أرقام مملة أخرى، وصدر للمخ أمر بأن يصل إلى نتيجة ضرب هذه الأرقام المملة، فما كان من المخ إلا وأرسى حساباته وتوقعاته على أول رقم / أول مجموعة من الأرقام، وفي هذه الحالة كانت واحد ثم اثنين ثم ربما ثلاثة.
هذه التجربة (1×2×3×4×5×6×7×8) قام بها الباحثان عموس تفرسكي و دانيال كاهنمان في عام 1974 (Tversky & kahneman) في الجامعة العبرية في القدس المحتلة، ونشرا نتائج بحثهما في مجلة العلوم الأمريكية Science بعنوان اتخاذ القرارات في ظل عدم الوضوح. التجربة قامت على كتابة المعادلة الأولى أمام مجموعة من طلاب المدارس الثانوية، والمعادلة الثانية أمام مجموعة أخرى.
جاء متوسط تقديرات المجموعة الأولى لنتيجة المعادلة الأولى عند 512 بينما متوسط الثانية جاء عند 2250. الجدير بالذكر أن النتيجة الصحيحة هي 40320. هذه التجربة كانت فاتحة لمجموعة كبيرة تالية من الدراسات التي أكدت صحة نتائج هذه الدراسة.
كيف تستخدم الارتساء في التسويق؟
باختصار شديد، إذا كان لديك مجموعة من الأرقام وتريد إعطاء الانطباع بأن هذه الأرقام قليلة، صغيرة، مثلما الحال مع منشور تسويقي يبرر سعر بيع منتج ما، ابدأ بالحديث عن أقل رقم لديك. هل لديك نتائج إحصائية وتريد إعطاء الانطباع بأن هذه الأرقام كبيرة والنتيجة عظيمة؟ ابدأ بالحديث عن أكبر الأرقام التي لديك ثم الذي يليه وهكذا.
الارتساء له شروط، وهو عامل ضمن مجموعة عوامل
لا تتسرع يا عزيزي، هناك شروط أخرى لنجاح استخدام هذا المبدأ في التسويق. الارتساء (أو انكورينج) يحتاج إلى استخدام أرقام من ذات الصلة، بمعنى أرقام مع أرقام، نسب مئوية مع نسب مئوية، الثمن بالدولار مع الثمن بالدولار وليس عملة أخرى، وهكذا.
الارتساء يعمل داخل الفئة الواحدة
وجدت دراسة بحثية أخرى أن الارتساء (أو الانكورينغ) يتحقق عند مقارنة الصنف بذات الصنف، عندما طلب الباحثون من عينة من الناس توقع ارتفاع جسر ما، وكذلك توقع عرض هذا الجسر. قبل سؤالهم هذا، أخبر الباحثون أفراد العينة معلومة عرضية عن ارتفاع البوابة التي تؤدي إلى هذا الجسر وعرضها.
بفحص متوسطات تقديرات العينة، وجد الباحثون أن إخبار العينة بارتفاع البوابة كان له أثر ملموس على توقع هذه العينة لارتفاع الجسر، في حين أن ذكر عرض البوابة لم يكن له أي تأثير. الشيء ذاته تكرر في توقع العينة لعرض الجسر حين أخبرهم الباحثون بعرض البوابة قبلها. أي أن المعلومة العرضية عن الارتفاع كان لها تأثير مماثل على توقعهم لارتفاع الجسر، وهكذا. المعلومة العرضية عن الارتفاع لم تؤثر على توقعهم للعرض.
الارتساء يتحقق حتى مع معرفة العينة قبل التجربة
في تجربة أخرى، أخبر الباحثون أفراد العينة بأن الأرقام العرضية التي سيذكرونها لهم غرضها التأثير على توقعاتهم. العجيب أن أفراد العينة أكدوا أن هذه المعلومات العرضية المسبقة لن تؤثر على توقعاتهم، لكن النتائج أثبتت أن إخبار العينة مسبقا لم يكن له تأثير على توقعاتهم – والتي تأثرت بالفعل بالأرقام التي ذكرها الباحثون في البداية.
في تجربة ثانية، جمع الباحثون مجموعة من سماسرة العقارات في الولايات المتحدة الأمريكية، وأخذوهم في جولة لتقدير أسعار بعض العقارات في مدينة ما. قسّم الباحثون السماسرة لمجموعتين، المجموعة الأولى حصلت على منشور تسويقي سرد متوسط أسعار العقارات المجاورة والقريبة من العقارات التي كان على السماسرة توقع أسعارها، هذا المنشور سرد أسعارا مبالغ فيها، بينما المجموعة الثانية حصلت على منشور فيه أسعار متدنية.
قبل أن يعطي السماسرة توقعاتهم، أخبرهم الباحثون بأن هذه تجربة وأن هذه المنشورات غرضها التأثير على توقعاتهم. عندها أكد السماسرة أن هذه المنشورات لن تؤثر على تقديراتهم. بفحص النتائج، أعطى سماسرة المنشورات المبالغ في أسعارها تقديرات أعلى من تلك التي أعطاها الفريق الثاني الذي قرأ المنشور ذي الأرقام المتدنية.
أي أن معرفة أفراد العينة المسبقة بمبدأ الارتساء لم تؤثر على تقديراتهم والتي أكدت على صحة مبدأ الارتساء (الأبحاث وجدت أن هناك عوامل أخرى بجانب الارتساء لها تأثير على توقعات الناس).
الارتساء يدوم لمدة 40 دقيقة لا أكثر
وفقا لمحاضرة في عام 2012 ألقاها مدير وكالة الإعلانات أوجيلفي في انجلترا (روري ساذرلاند Rory Sutherland)، يدوم أثر الارتساء لقرابة 40 دقيقة ثم يزول، ثم ضرب مثلا عليه بموقع حجوزات عطلات سياحية على انترنت، حين لاحظوا أن إعلانات التليفزيونات على هذا الموقع تحديدا تحقق مبيعات كبيرة، وكان التفسير هو أن من يستمر لفترة طويلة في قراءة محتويات هذا الموقع، ويجد أن أقل عطلة سياحية سعرها 3 آلاف دولار، حين يشاهد إعلان تليفزيون سعره 900 دولار فهو سيشعر ساعتها أن هذا السعر رخيص وسيسارع ليشتريه.
هذا يفسر لك لماذا حين تنظر في نافذة عرض محل ما، أو قائمة طعام في مطعم ما، وتجد شيئا ما سعره غالي بدرجة مبالغ فيها، تتغير نظرتك لبقية الأشياء الأخرى… إنه الارتساء.
هل استخدام الارتساء في التسويق نصب واحتيال؟
شئت أم أبيت، الارتساء سيحدث، ولو حتى بشكل عشوائي، مثل أن تقرأ عن منتج ما سعره غالي ثم تجد عرضا آخر بسعر أقل فتشعر أن سعر الأخير رخيص وأنه صفقة لا تفوت. كذلك قد تمر بنوافذ عدة محلات تعرض منتجات ثم تحكم أن أسعار هذا المحل أغلى من غيره بينما هذا الآخر أسعاره رخيصة دون أن تدرك السبب. استخدمته لصالحك في التسويق أم لم تفعل، فالنتيجة ليست مضمونة 100% إذ أن هناك عوامل أخرى تؤثر في طريقة تفكير مخ البشر